يسعى النظام السوري لاستعادة نفوذه في لبنان لتعزيز شرعيته السياسية، واستيعاب الضغوط الإقليمية والدولية المتصاعدة، ويرتبط ذلك بمحاولات "حزب الله" ضمَّ لبنان للمحور الإيراني في الشرق الأوسط، وتلميحات أمين عام الحزب "حسن نصر الله" بأن مصلحة لبنان تتطلب وجود علاقات وثيقة مع النظام السوري، وأن الحزب هو الضامن لعدم عودة الوصاية السورية إلى لبنان، بهدف إزالة مخاوف اللبنانيين من إعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري.
ويواجه النفوذ السوري في لبنان عدة عوائق تعرقل الاختراق السوري للداخل اللبناني، يتمثل أهمها في: الممانعة المحلية، ورفض التيارات الرئيسية للدور السوري في لبنان، وتصدي الفاعلين الإقليميين والدوليين لمساعي النظام السوري لمنع إيران من الهيمنة على لبنان، بالإضافة إلى استنزاف الحرب الأهلية لقدرات النظام السوري، وعدم امتلاكه الموارد التي تؤهله لممارسة نفوذ واسع النطاق في لبنان.
الارتباط اللبناني-السوري:
يرى عدد من المراقبين أن الحدود بين لبنان وسوريا قد انتهت مع دخول القوات السورية إلى لبنان في عام 1976، حيث كان هذا الأمر ضروريًّا وقتها للنظام السوري لتثبيت دعائم حكمه، انطلاقًا من مبدأ أن السيطرة على الداخل اللبناني ضرورية للسيطرة على الداخل السوري، ولقد تطورت هذه المعادلة خلال الأزمة السورية الحالية إلى حد اعتبار لبنان جزءًا من "سوريا المحررة"، وأن النظام قد يغض الطرف عن خسارة بعض أجزاء من سوريا كما تعامل مع موضوع الجولان ولواء الإسكندرون سابقًا، لكنه لن يتنازل عن أطماعه في نظرته إلى لبنان.
وقد امتدت تأثيرات الصراع السوري إلى الداخل اللبناني، حيث أدى هذا الصراع إلى زيادة حدة الانقسام السياسي بين فريقي 14 مارس و8 مارس، وتصاعد الانقسام الطائفي بين السنة والشيعة، خاصة وأن هناك تحالفات عابرة للحدود بين بعض الجماعات من كلا الدولتين، وقد تطورت بعض هذه التحالفات إلى تدخل عسكري، مثل مشاركة قوات من "حزب الله" في الصراع السوري من أجل استعادة السيطرة على المناطق التي لا يستطيع النظام السوري استرجاعها أو الحفاظ عليها من السقوط، فيما بقيت بعض التحالفات في حدود الدعم المعنوي والإعلامي، ومن ثم أصبح أي تغيير في موازين القوى في سوريا يُستخدم من قبل بعض الجماعات في لبنان لتصفية حساباتهم السياسية.
ومع تصاعد أعداد النازحين السوريين في لبنان أصبح يقع على النظام اللبناني عبء تأمين مناطق النزوح السوري في لبنان المحاذية للحدود السورية لمنع تحولها إلى مناطق دعم خلفية للمعارضة السورية. ويسعى النظام السوري -في الوقت الحالي- إلى استغلال أي فرصة لزيادة نفوذه في لبنان، كما قد يحاول التدخل في العملية السياسية اللبنانية، لأن سيطرة فريق معين على السلطة قد يهدد استمرارية الدعم الذي يأتي من لبنان والعكس صحيح.
وفي هذا السياق، يرى البعض أن إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان جاء متزامنًا مع استعادة النظام السوري السيطرة على مدينة حلب، ويمكن الإشارة -في هذا الصدد- إلى تصريح "بشار الأسد" في مقابلة أجرتها معه صحيفة "الوطن" السورية، في ديسمبر 2016، بأن انتخاب "ميشال عون" رئيسًا للجمهورية اللبنانية "هو انتصار لسوريا"، منتقدًا -في الوقت نفسه- سياسة النأي بالنفس التي ينتهجها لبنان رسميًّا، معتبرًا أنها "سياسة اللا سياسة".
ويتساءل مراقبون في هذا الصدد أيضًا عن سبب عدم إعلان "حزب الله" عن عودة مقاتليه من سوريا، خصوصًا بعد إعلانه الانتصار على الإرهاب، وهو السبب الذي لطالما برر به انخراطه العسكري في سوريا، ويرجعون السبب في ذلك إلى ارتباط هذه العودة برغبة محور الممانعة في تحويل لبنان وسوريا إلى ساحة واحدة.
ضغوط استعادة النفوذ:
على النقيض مما يدعيه البعض من أن انشغال النظام السوري بالصراع الداخلي أدى إلى تراجع نفوذه بالداخل اللبناني، توجد عدة المؤشرات تؤكد استمرار هذا النفوذ، ويمكن الإشارة إليها فيما يلي:
1- الزيارات غير المعلنة: حيث ذكرت صحيفة "الحياة" في يناير 2018 عن قيام وزير المصالحة السوري "علي حيدر" بزيارة إلى لبنان بعيدًا عن الإعلام، التقى خلالها مجموعة من النازحين السوريين لإقناعهم بالعودة إلى سوريا، وتعهد بأن مناطق إقامتهم في سوريا ستكون آمنة، في مسعى للضغط على لبنان بورقة النازحين السوريين في لبنان، خاصة وأن لبنان يأوي عددًا كبيرًا من السوريين سيكون لهم تأثير كبير في حال إجراء أي انتخابات. وفي هذا السياق، صرح الوزير اللبناني عن تيار المستقبل "معين مرعبي" في يوليو 2017 بأن "حل أزمة النازحين يكمن في انسحاب "حزب الله" من الأراضي التي احتلها، وهو ما سبب أزمة النازحين"، كما تستخدم بعض القوى السياسية هذه الورقة كذريعة للتمهيد للتفاوض مع النظام السوري بشكل رسمي.
2- معبر جوسيه-القاع: حيث تمت إعادة افتتاح معبر "الجوسيه-القاع" البري بين لبنان وسوريا في ديسمبر 2017، وكان من اللافت سعي القوى القريبة من النظام السوري إلى تنظيم افتتاح مشترك يضم ممثلين عن الحكومتين السورية واللبنانية، إلا أن هذه المحاولات لم تنجح في ظل استمرار الخلاف اللبناني-اللبناني حول طبيعة العلاقة مع النظام السوري.
3- تعزيز التمثيل الدبلوماسي: قامت الحكومة اللبنانية بتعيين سفير جديد في سوريا في أكتوبر 2017، وذلك بعد فترة طويلة من تخفيض التمثيل الدبلوماسي، وهو ما أثار جدلًا واسع النطاق، حيث اعتبره البعض بمثابة اعتراف بالنظام، بيد أن مصادر مقربة من قوى 14 مارس أشارت إلى أن الاعتراف الرسمي والدبلوماسي بلبنان أحد أهم إنجازات ثورة الأرز، وبالتالي يجب المحافظة على هذا الإنجاز، كما أن الاعتراف بالدولة السورية لا يعني الاعتراف بالنظام، وأن التبادل الدبلوماسي يأتي ضمن الاعتراف بالدولة.
4- عقد اللقاءات الرسمية: التقى "وليد المعلم" وزير الخارجية السوري مع "جبران باسيل" رئيس التيار الوطني الحر على هامش اجتماعات الهيئة العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر 2017، وهو ما أدى إلى ردود أفعال قوية في لبنان؛ حيث علق وزير الداخلية اللبناني "نهاد المشنوق" مشاركته في وفد رئيس الجمهورية المتوجه في زيارة رسمية إلى فرنسا، وأعلن رئيس الحكومة اللبنانية "سعد الحريري" عدم موافقته على هذا اللقاء، كما صرح بأنه "لن يطبع العلاقات مع النظام السوري لا من قريب ولا من بعيد".
5- الترويج للجيش السوري: دعا "حسن نصر الله" في أحد خطاباته التليفزيونية المذاعة في أغسطس 2017 إلى ما يُعرف بمعادلة "جيش وشعب ومقاومة + جيش سوري" وذلك بعد أن تمت مهاجمة بعض المناطق المتواجد فيها "حزب الله" على الحدود اللبنانية نتيجة للدعوات التي أطلقها الحزب للتنسيق بين الجيش السوري واللبناني في المعركة ضد الإرهاب، وهو ما رفضه بعض السياسيين مثل رئيس حزب القوات اللبنانية "سمير جعجع" الذي صرح بأن المعادلة الوحيدة الصحيحة هي: "جيش وشعب ودولة".
6- محاولات تطبيع العلاقات: تلقى عدد من الوزراء المحسوبين على جبهة 8 مارس دعوات للمشاركة في معرض بدمشق تنظمه السلطات السورية في صيف 2017، وسط الترويج لدعوات إعادة تطبيع العلاقات مع سوريا؛ إلا أن تلبية هذه المشاركة أثارت جدلًا واسعًا داخل الحكومة اللبنانية، وتم الاتفاق على أن هذه الزيارات يمكن أن يقوم الوزراء بها بشكل شخصي وليست زيارات رسمية لتمثيل الحكومة اللبنانية.
دوافع النظام السوري:
تتمثل أبرز دوافع النظام السوري في استعادة نفوذه في لبنان فيما يلي:
1- إنهاء عزلة النظام: يرغب النظام السوري في إنهاء عزلته الإقليمية، وإيجاد حلفاء له يعبرون عن مصالحه ويصوتون لصالحه في المحافل الإقليمية والدولية كجامعة الدول العربية والأمم المتحدة. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى الدعوة التي تلقتها لبنان لحضور مؤتمر سوتشي، والتي سلمها السفير الروسي في لبنان إلى وزير الخارجية اللبناني "جبران باسيل" في 25 يناير 2018، وهو ما يكشف عن حاجة النظام السوري إلى موقف لبناني رسمي مساند في مثل هذه اللقاءات.
2- السيطرة على الداخل: يرى النظام السوري أن سيطرة حلفائه على الساحة اللبنانية ستساعده في الحفاظ على بقائه، كما أنه لا يزال يحتاج إلى الدعم العسكري والإعلامي من القوى السياسية المساندة له في لبنان.
3- الاعتراف بشرعية النظام: في حالة تمكن النظام السوري من استعادة سيطرته على الداخل اللبناني، فإنه يستطيع السيطرة أيضًا على بعض الملفات التي تُعد لبنان طرفًا رئيسيًّا فيها، مثل: اللاجئين السوريين، وإعادة الإعمار في سوريا. وفي هذا الإطار، يرى البعض في لبنان ضرورة التنسيق مع النظام السوري لحل هذه الإشكاليات، ويعني التفاوض مع النظام السوري الاعتراف بشرعية النظام، فيما يرى البعض الآخر ضرورة أن يتم التنسيق عبر الأمم المتحدة.
معوِّقات استعادة النفوذ:
على الرغم من رغبة النظام السوري وحلفائه في لبنان في استعادة النظام السوري لنفوذه في لبنان، إلا أنه توجد عدد من المعوقات التي تحول دون ذلك، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
1- غياب الدعم الدولي: حيث ارتبط الوجود السوري سابقًا في لبنان بالضوء الأخضر الذي حصلت عليه سوريا من الولايات المتحدة الأمريكية من خلال اتفاق "الخطوط الحمر" الذي أبرمه "حافظ الأسد" مع "هنري كيسنجر" في منتصف السبعينيات، والذي كان يسمح لسوريا بزيادة نفوذها في لبنان خاصة بهدف أن تصبح قوة رادعة أمام تزايد النفوذ الفلسطيني السياسي والعسكري في لبنان، والرغبة في أن تلعب دورًا موازنًا بين الأطراف الداخلية المتحاربة في لبنان، وهو ما لا ينطبق على الفترة الحالية، حيث إن أغلب الأطراف الدولية -بما فيها تلك الداعمة للنظام السوري- ليست لها مصلحة في تقوية النفوذ السوري في لبنان.
2- معارضة الداخل اللبناني: تُعارض بعض القوى السياسية هذا الدور السوري، وقد تمكنت هذه القوى من تحقيق الفوز في آخر انتخابات أُجريت في عامي 2005 و2009، بعد أن رفعت شعارات تناهض الوجود السوري، وهو الموقف الذي يتبناه "تيار 14 مارس" الذي لا يزال قادرًا على التوحّد عندما يتعلق الأمر بالوجود السوري في لبنان، وهو ما عبّر عنه رئيس حزب القوات اللبنانية "سمير جعجع" في أكتوبر 2017، حيث قال: "إن اللبنانيين لن يسمحوا بعودة النفوذ السوري إلى لبنان، وإن دعوات الحديث إلى رئيس النظام السوري "بشار الأسد" من أجل حل مشكلة النازحين إلى لبنان غير مجدية.. عودة نظام الأسد إلى لبنان خط أحمر". كما التقى رئيسُ تيار المستقبل "سعد الحريري" مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي "وليد جنبلاط" فور لقاء "المعلم" مع "باسيل" على هامش اجتماعات الهيئة العامة للأمم المتحدة.
مستقبل النفوذ السوري:
يُمكن توقع ثلاثة سيناريوهات مختلفة لمستقبل النفوذ السوري في لبنان، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:
1-العلاقات غير الرسمية: قد يقتصر على استمرار الاتصال مع بعض القوى السياسية اللبنانية ومحاولة التأثير عليها، وقد أشارت مجلة "اللوموند ديبلوماتيك" (Le Monde diplomatique) في عددها الصادر في يناير 2018 إلى وجود لقاءات دورية بين "بشار الأسد" ومجموعة من القوى والشخصيات السياسية اللبنانية في دمشق، وقد تحاول هذه القوى عرقلة العملية السياسية في لبنان.
2- التطبيع الرسمي للعلاقات: قد يحاول حلفاء سوريا وإيران في الداخل اللبناني دفع لبنان لإعادة تطبيع علاقاتها مع النظام السوري تحت حجة تأمين مصلحة لبنان الاقتصادية من زيادة الكهرباء المولدة من سوريا، وتأمين حركة البضائع اللبنانية المصدرة، والتخلص من عبء النزوح السوري، وقد تم وضع حدٍّ لهذه المحاولات مع إعادة الاعتبار لمبدأ "النأي بالنفس" بعد استقالة الحريري في نوفمبر 2017، بيد أن هذه المحاولات قد تتجدد مرة أخرى.
3-اختراق الداخل اللبناني: لا يمكن أن يتحقق هذا السيناريو إلا عبر السيطرة على البرلمان، وذلك من خلال حصول "حزب الله" وحلفاء سوريا على الأغلبية البرلمانية، خاصة وأن القانون الانتخابي الذي ستُجرَى على أساسه الانتخابات والذي يقوم على النسبية مع الصوت التفضيلي يُعد مناسبًا لـ"حزب الله"، حيث إنه سيستفيد من نتائج النسبية في الدوائر التي يتمتع فيها خصومه بالقوة، فيما سيستحوذ على أغلب المقاعد في الدوائر الانتخابية التي يتمتع فيها بالنفوذ بسبب استخدامه أسلوب الترهيب والتخويف بالسلاح.
ولعل هذا ما يفسر رغبة "حزب الله" في عودة "سعد الحريري" عن استقالته الأخيرة، نظرًا لأن الأغلبية الحالية من النواب الذين كانوا سيختارون رئيس الحكومة الجديدة من مؤيدي "سعد الحريري"، فيما ستتغير المعادلة في ظل وجود برلمان جديد يسيطر عليه "حزب الله" وحلفاء سوريا، ويمكن الاستدلال على هذا السعي للسيطرة على البرلمان من خلال ما كشفته صحيفة "الأخبار" اللبنانية المقربة من "حزب الله" في 25 يناير 2018 عن وجود اتفاق بين "حزب الله" وحركة "أمل" للاستحواذ على جميع المقاعد الشيعية التي يقدر عددها بحوالي 27 مقعدًا عبر عملية توزيع مدروسة للتصويت بين الشريكين بطريقة لا تسمح بتمثيل أي قوى شيعية مستقلة ولو بمقعد واحد.
ختامًا، على الرغم من عدم قدرة النظام السوري على اختراق الداخل اللبناني؛ إلا أن حلفاءه في لبنان يمكن أن يتيحوا تحقيق بعض أهدافه المتمثلة في منحه قدرًا من الشرعية نتيجة وجود علاقات متبادلة في بعض الملفات، مثل: المعابر الحدودية، وتنظيم عودة اللاجئين، وتعزيز التمثيل الدبلوماسي، وهو ما يزيد من حدة التجاذبات في الداخل اللبناني حول مستقبل العلاقات مع سوريا.